الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فما دام قد مات وهو مدين وليس عنده ما يسد الدين؛ فربما كان لا ينوي رد الدين، وأن نفسه قد حدثته بألا يرد الدين.وفي فلسفة هذا الأمر نفسيًا نجد أن المقترض عندما يقترض شيئا كبيرا لا يستطيع أن يتجاهله أو ينساه، ثم لا يمر بذهن الذي أقرض أن فلانًا مدين، بل وقد تبلغ الحساسية بالذي قدم القرض ألا يمر على المقترض يريد أن يسدد القرض. أما إن تحرك قلب الدائن على المدين، وجلس يفكر في قيمة الدين، فليُفهم أن عند الذي اقترض بعض ما يسدد به الدين، أي أن المدين عنده القدرة على الوفاء بالدَّيْن أو ببعضه، ذلك أن الله لا يُحرج من يَجِد ويجتهد في السعي لسداد دينه.{وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا حَسَنًا}. وقد يقول قائل: كان السياق اللفظي يقتضي أن يقول: «أقرضتم الله إقراضا»؛ لكن الحق جاء بالقرض الحسن؛ لأن الإقراض هو العملية الحادثة بين الطالب للقرض والذي يقرض.وسبحانه يضع القرض الحسن في يده، ولنا أن نتصور ما في يد الله من قدرة على العطاء. ومثل ذلك قوله الحق: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17].و{أنبتكم} تعبر عن عملية الإنبات، والأرض تخرج نباتا لا إنباتا. فمرة يأتي الله بالفعل ويأتي من بعد ذلك بالمصدر من الفعل؛ لأنه يريد به الاسم. و«أنبت» يدل على معنى وينشئ الله لكم منها نباتا.وهكذا قال الله عن القرض: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وفي ذلك جواب للقسم، ومن بعد ذلك يقول سبحانه: {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقد تكلمنا من قبل كثيرا عن الجنات. ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السبيل} ألم يكن الذي كفر من قبل ذلك قد ضل سواء السبيل؟ بلى، إنه قد ضل فعلا، ولكن الذي ضل بعد أن جاء ذكر تلك النعم والثواب فيها فالضلال أكثر. وكلمة {سواء} نقرأها في القرآن ونراها في الاستعمالات اللغوية؛ كمثل قوله الحق: {لَيْسُواْ سَوَاءً} [آل عمران: 113].وسواء معناها وسط، ومتساوون. والمعاني ملتقية؛ لأنه عندما يكون هناك وسط فمعنى ذلك أن هناك طرفين. ومادام الشيء في الوسط فالطرفان متساويان، وعندما نقول: وسط، فهذا يقتضي أن نجعل المسافة بينه وبين كل طرف متساوية. ولذلك يجب أن ننتبه إلى أن كثيرًا من الألفاظ تستعمل في شيء وفي شيء آخر، وهذا ما يسمى بالمشترك اللفظي.. أي اللفظ واحد والمعنى متعدد، مثال ذلك قوله الحق: {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].والشطر هو الجهة. والشطر هو النصف. النصف هو الجهة بمعنى أن توجه إنسان ما إلى الكعبة يقتضي أن يكون الإنسان واقفًا في نقطة هي مركز بالنسبة لدائرة الأفق. وهذه النقطة بالنسبة لمحيط الأفق تقطع كل قطر من أقطارها في المنتصف تمامًا. إذن. فعندما يقول: الجهة، نقول: صدقت، وعندما يقول النصف. نقول: صدقت.{فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السبيل} والقرآن قد نزل على أمة تعيش في البادية وطرقها بين الجبال، وقد يكون الطريق معبّدًا من ناحية، وقد يكون الطريق بين هاويتين. وقد يكون الطريق بين جبلين، ومن يأخذ بالأحوط فهو يمسي في الوسط. ولذلك قال الإمام علي- كرم الله وجهه-: اليمين والشمال مضلة وخير الأمور الوسط؛ لأن الإنسان قد يتجه يمينًا فيقع. أو يتجه شمالًا فيقع؛ أو تقع عليه صخرة. ونجد الوالد ينصح ابنه فيقول له: امش ولا تلتفت يمينًا أو يسارًا واتجه إلى مقصدك. ونجد الحق يصف الطريق الذي يمشي عليه المؤمن يوم القيامة: {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجحيم} [الصافات: 55].وسواء الجحيم هو نقطة المنتصف في النار؛ أي أنه لا يستطيع الذهاب يمينًا أو شمالًا. اهـ.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله عز وجل: {اثني عشر نقيبًا} قال: هم من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى المدينة، فجاؤوا بحبة من فاكهتهم، فعند ذلك فتنوا، فقالوا: لا نستطيع القتال فاذهب أنت وربك فقاتلا.وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو صدقني وآمن بي واتبعني عشرة من اليهود لأسلم كل يهودي» كان قال كعب اثني عشر، وتصديق ذلك في المائدة {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا}.وأخرج أحمد والحاكم عن ابن مسعود. أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال: سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اثنا عشر كعدة بني إسرائيل».وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس. أن موسى عليه السلام قال للنقباء الاثني عشر: سيروا اليوم فحدثوني حديثهم وما أمرهم، ولا تخافوا إن الله: {معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضًا حسنًا}.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وعزرتموهم} قال: أعنتموهم.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {وعزرتموهم} قال: نصرتموهم.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: التعزيز والتوقير. النصرة والطاعة. اهـ.
وقيل: هو الثناء بخير، قال يونس، وهو قريب من الأول. وقيل: هو الردُّ عن الظلم قاله الفراء. وقال الزجاج: «هو الردع والمنع» فعلى القولين الأولين يكون المعنى: «وعَظَّمْتُموهم وأثنيتم عليهم خيرًا» وعلى الثالث والرابع يكون المعنى: وردَدْتم وردَعْتم سفهاءَهم عنهم. قال الزجاج: «عزرت فلانًا»: فَعَلْتُ به ما يردعه عن القبيح، مثل نَكَّلت، فعلى هذا يكون «عَزَّرْتُموهم» رَدّدْتم عنهم اعداءهم وقرأ الحسن البصري: {برسْلي} بسكون العين حيث وقع. وقرأ الجحدري: {وعَزَرْتموهم} خيفيفةَ الزاي وهي لغة. وقرأ في الفتح: {وتَعْزُوروه} بفتح حرف المضارعة وسكون العين وضم الزاي، وهي موافقة لقراءته هنا.وقوله: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا} تقدَّم الكلام في {قَرْضا} وفي نصبه في البقرة. اهـ.
|